من الواضح ان هناك من يزايد علينا ويلقننا دروسا في الديمقراطية بلغة استعلائية فوقية تمرس فيها على غير وجه حق بعض قيادات معارضتنا وراحوا يمارسون معنا من موقع اختلافنا الفكري معهم استصغارا لوعينا ونحن ندرك جيدا أن مثل هذه المزايدات مجرد تعبير عن انتفاخ ذاتي نرجسي لا يعكس وعيا علميا حقيقيا بالمسيرة والتجربة الديمقراطية في البلدان الاوربية والغربية التي لم تصل الى ما وصلت اليه قفزا وحرقا للمراحل وانما بالتدرج الديمقراطي السلمي الطويل النفس والعقلاني الرصين الذي لم يعرض تجربتهم لانتكاسات وتراجعات ما هيأ لتلك التجربة الرائدة تحقيق تراكم المكاسب وهو ما يميز الديمقراطية أو المنهج الديمقراطي عن سواه من أساليب.
ولشيء من الفائدة المعرفية لنا وللآخرين نلقي اطلالة على فصل من كتاب الباحث الاستاذ هاشم صالح «الانسداد التاريخي» لعلنا نرد على تلك المزايدات الاستعلائية.
يقول «لم تصبح اوربا الغربية ديمقراطية وليبرالية دستورية الا بعد صراع مرير استغرق القرن التاسع عشر كله، بل حتى منتصف القرن العشرين.. فإنكلترا أعرق نظام ديمقراطي في العالم لم تعطِ حق التصويت لكل أبناء الشعب ومن ضمنهم النساء والفلاحون الا في عام 1930.
وفرنسا لم تصبح ديمقراطية تماما الا عام 1945 أي بعد مرور مئة وخمسين عاما على الثورة الفرنسية.. الجنرال ديغول «عسكري» هو الذي جعل فرنسا ديمقراطية عندما اعطى حق التصويت للنساء كما يرصد الباحث هاشم صالح ويقول هذا شيء ننساه ولا نكاد نصدقه الان.
والسبب كما يذكر الباحث هو أن فلسفة الديمقراطية في كلتا الحالتين الانكليزية والفرنسية كانت تعتقد بأنه ينبغي تثقيف الشعب وتعليمه ومحو أميته قبل اعطائه حق التصويت أي حق المساهمة في القرار السياسي.
وهنا نقف ونقول بوضوح بالتأكيد لا نريد ان نبدأ من حيث بدؤوا.. لكننا ايضا وبحكم الواقع السيوسيولوجي والمجتمعي العربي العام وبحكم الوعي السياسي بوجه خاص والوعي بعمومه في عالمنا العربي لا يمكن لنا ان نبدأ من حيثما انتهوا ووصلوا فالنهج الديمقراطي يحتاج تهيئة ومراسا وممارسة واستعدادا مجتمعياً لا يمكن ان يتحقق هكذا دفعة واحدة لا سيما لمجتمع عربي كمجتمعنا يعاني من انسدادات في وعيه ومعضلات في الذهنية العربية لا يمكن انكارها والدليل ان صناديق الانتخابات في عالمنا العربي تدفع بأحزاب وتيارات طائفية ومذهبية وفئوية ثيوقراطية وولائية.
يقول هاشم صالح أدولف هتلر وصل الى السلطة عن طريق صندوق الانتخابات ثم كان ما كان.. الشعب قد يخطئ والشعب ليس إلهًا معصوما.. واذا كان لديها خطيب ديماغوجي يضرب على اوتار العصبية المذهبية والطائفية كما هو حاصل عندنا بالضرب على وتر المظلومية المستعادة من كهوف التاريخ واسقاطها على واقع مختلف للاستحواذ على عواطف جمهور محدود الوعي فإن صناديق الانتخاب لن تدفع الا بالوجوه الطائفية المتمذهبة خصوصا في المناطق والدوائر الواقعة تحت هيمنة خطابات العصبية.
نحن امام واقع لا امام مثاليات وتنظيرات فوقية لا علاقة لها بالقاع المجتمعي الذي نعيشه والذي يعيش وعيا مؤطرا ومقيدا ومحدودا بحدود الوعي الطائفي العصبوي والمذهبي الفئوي.. وهو واقع للأسف سحب الى صفوفه والى دوائره الخطيرة بعض النخب المسكونة هي الاخرى بذات الوعي الطائفي في أعمق أعماقها فاستدعته واستحضرته في لحظة صعود المد الطائفي والحلم بحكم الطائفة والفئة.
المطروح في مشهدنا أننا امام خيار اصلاحي لا ندعي انه استكمل مهامه وشوطه الاصلاحي وبين احزاب استبدادية مستغرقة فئويتها وطافحة بطائفيتها الجهنمية ولا نعتقد أننا نحتار في من ننحاز اليه الا اذا كنا من الحالمين بحكم الطائفة وهيمنة الفئة المتمذهبة.