عندما استمعت لأحد النشطاء السياسيين وهو يقول “يجب ان نقدس الشهيد” ذهبت بمفردة التقديس الى فضاء اوسع وأكبر لأتأمل ثقافة التقديس في الايديولوجية العربية المعاصرة والتي حاصرتنا طوال عقود من العمل السياسي المؤطر الى حد كبير ب “تقديس الافراد” وهم بطبيعة الحال افراد منتقون بعناية ايديولوجية اسبغت عليهم القداسة فتحولوا الى ايقونات في معابد السياسة تتطاير من حولهم هالات “قدسية” تمنع من ان نراهم كبشر حالهم حال البشر الآخرين.
واذا كان الشهيد هو الاعلى مرتبة في التقدير والاعزاز العام فانه في النهاية بشر لا يمكن حتى للشهادة والاستشهاد ان يضفي عليه “القداسة” كما هي في المفهوم اللاهوتي الذي هيمن على الايديولوجية العربية واختلط فيها “الناسوت واللاهوت.
الناسوت هو البشري واللاهوت هو الديني وهو ما يهيمن في اختلاطه على عملنا السياسي العربي حتى عند القوى والاحزاب التي ترفع شعارات اليسار فيحتل الزعيم في ثقافتها وفي خطابها مكانة ومكان “المقدس” الذي يرتفع أو بالأدق الذي يرفعونه عن سائر البشر وينظرون اليه بوصفه الزعيم المقدس لتصبح كلماته وألفاظه لاهوتاً “ديناً” جديداً لهذا الحزب الذي تسكنه هناك في أعمق أعماقه المستترة والغائرة ثقافة لاهوتية قديمة لم يقطع حبله السري معها فيستدعيها في معاصرته وفي حالاته السياسية اليسارية والمدنية في شعاراتها ليسبغ التقديس على فرد سواء كان زعيماً أو قائداً حزبيا بارزاً أو ما شابه.
وثقافة التقديس في العمل السياسي والوعي الفكري والنشاط الثقافي تحول بينها وبين التطور والتجدد والابداع والتغيير والخروج من النمطية الى فضاء التعاطي خارج “تابو” المقدسات والتقديس للبشر.
فأحد أهم أسباب تخلفنا وأحد أسباب تطرفنا الراديكالي هو تقديسنا للبشر في ثقافة لا تستطيع ان تعيش الا في ظل “مقدس” لاهوتي يحميها بقوته وقدرته غير الطبيعية بما يذكرنا بالإنسان البدائي الاول الذي كان يخترع “مقدسه” للاحتماء به من غلواء الطبيعة وتقلباتها من طوفان وزلازل وبراكين وأعاصير وعواصف.. ليلوذ ب “المقدس” الخرافي طلباً للحماية ودرء الاخطار.
تقديس الافراد يكاد يكون ظاهرة ثقافية مجتمعية طاغية في عالمنا العربي تحتل فيها المرجعية الدينية للطائفة أو المذهب المكانة الاولى والابرز ليتوالى بعدها وتراتبياً “المقدس البشر” حيث تسارع كل جماعة وكل طيف سياسي وكل حزب “حتى اليساري منها” الى اختراع “مقدسه” البشري يلوذ به ويحتمي.
وكما تقدس التنظيمات والتيارات الولائية الطائفية المتمذهبة خميني “قدس سره” هكذا يقولون ويكتبون فمن قبلهم قدس الشيوعيون الصينيون ماو تسي تونغ وحملوا في جيوب ستراتهم كتابه الاحمر الذي يحوي مقولاته يعودون اليها في كل شيء ويستشهدون بها في كل شيء وكذلك يستنجدون بها في كل شيء..!!
وهكذا سنلاحظ ان البحث عن “مقدس” بشري هو لاهوت هذه الاحزاب والتنظيمات وهو جزء اساسي من تركيبتها الحزبية والفكرية والثقافية تعيد انتاجه بحسب الظروف وبحسب تبدلات الزمان وتغيرها.. لكنها تظل في اطار لاهوتي يعتمد “المقدس” البشري مرجعيته الحزبية والتنظيمية المؤطرة بإطار “التقديس”.
وهكذا يتحول مع الزمن هذا المقدس البشري الى اسطورة أشبه بالأساطير الاغريقية القديمة يحتاج الى قرابين هي هنا قرابين ثقافة النقد والنقد الذاتي والذي بغيابه الى درجة العدم تجمدت دماء التفكير والتجديد في عروقها وتظل تعيد وتكرر افكارها وتظل تبحث عن مقدس بشري فإذا لم تجده اخترعته.