يعتبر الدفء العاطفي من أهم الحاجات الانفعالية في حياة الفرد من حيث الحاجة إلى إشباعها في جميع مراحل الحياة وخصوصاً في مراحل طفولتنا الأولى. فلدى الفرد من حاجة غريزية لأن يحب ويُحب، بمعنى أن يشعر بحب الآخرين له ويبادلهم نفس المشاعر. فالدفء العاطفي كالملاءة التي تحمينا من برودة العواطف ورعشة الخوف وعواصف الزمن. فعندما نخاف ننزوي في مكان يحيط بنا ليشعرنا بالأمان أو نلوذ لأي شخص قريب منا لنتحسس دفء جسده الذي يهدي جوارحنا ويعيد التوازن لأرواحنا الفزعة. فالحب ودفء المشاعر حاجة أساسية للصحة النفسية والجسدية والعقلية تعرضنا للاضطرابات النفسية وسوء التوافق ما لم تُشبع. ولا تقتصر تلك المشاعر على العلاقات الرومانسية بين الحبيب والحبيب أو الزوج والزوجة بل يمتد نطاقها ليشمل كل أنواع العلاقات الإنسانية وعلى رأسها الصداقة النقية.
وتؤكد معظم الدراسات النفسية هذه الحقيقة حيث تعتبر اللحظات الأولى من حياة الكائن الحي مرحلة مفصلية في استقراره العاطفي المستقبلية. ومن تلك الدراسة دراسة للورنز (1935) والتي مازالت تعتبر من المرجعيات الهامة في علم النفس الحديث. فقد حاول هذا الباحث تبني واحتضان مجموعة من بيوض الإوز وكان يطبطب ويمسح عليها ويحدثها في مرحلة ما قبل التفقيس، كما أهتم بالصغار مباشرة بعد خروجها من البيض وأصبغ عليها الاهتمام حتى كبرت بعض الشيء فما كان من تلك الإوز إلا أن تستجيب لصوت العالم وتتبعه في كل مكان لأن صوته كان نبراس للأمان ومصدر الدفء والثقة الوحيد الذي الفته.
ولا تختلف حاجة الكائن البشري للاحتضان والدفء العاطفي عن حاجة الإوز بل قد تفوقها ضرورة وشده لطول فترة اعتماد الطفل على الغير في تحقيق حاجاته الأولية كالطعام والشراب والنظافة والتي لا يستطيع تلبيتها دون وجود شخص راشد بجانبه إلى أن يشتد عوده الصغير.
ولكن ما الذي يحدث لو وفرنا تلك الحاجات الأولية لهذا الطفل دونما تركيز على الجانب النفسي ودون وجود للاحتضان والدفء العاطفي؟ فهل سينمو نمواً طبيعياً؟ وتأتي دراسة العالمة مارقيرت ميد المتخصصة في علم النفس وعلم الإنسان الطبي لتثبت أنه من المستحيل أن ننشأ أطفال أسوياء نفسياً دون حب وأحضان دافئة. فقد استطاعت تلك العالمة الإجابة على الغموض الذي كان يحيط بتدهور الحالة الصحية لأطفال دور الأيتام والملجأ بعد أن لاحظ الطاقم الصحي الذي يقوم على رعاية هؤلاء الأطفال ظهور بعض علامات التبلد الفكري والتخلف العقلي وبعض الإعاقات الجسدية عليهم رغم حصولهم على الاهتمام الجسدي وعلى الرغم من أنهم قد ولدوا بصورة طبيعية.
ومما لاحظته العالمة أن أفراد طاقم الرعاية للأطفال يقدمون لهم الطعام والشراب ويقومون يومياً بعملية النظافة ومن ثم يقومون بوضعهم في أسره منفردة دون تفاعل أو ملامسة حنونة. فلم يكن هؤلاء الأطفال يحصلوا على كفايتهم من اللمس الإنساني والتقبيل والطبطبة والتدليل. وأفتقدوا اللأحضان الدافئة التي توجد في محيط الأسر الطبيعية المفعم بالمحبة والمودة والحنان، وهنا مربط الفرس.
والمؤسف حقاً في هذه الدراسة أن العديد من هؤلاء الأطفال قد خارت مقاومتهم الجسدية كنتيجة للإهمال العاطفي، وكأنهم ورود لم ترو بالحب وتعرض عدد منهم للموت غير المبرر وسميت تلك الحالة بالذبول قبل الأوان أو بالضياع والخسارة البشرية لهؤلاء الأطفال. فلم يكن العاملين في دور الرعاية يدركون ما للاحتضان الدافئة من تأثير في نموهم الفكري والعاطفي والجسدي، ولم ينتبهوا لضرورة ذلك الجانب من الرعاية.
أعتقد أنه هذه التجربة وغيرها من التجارب تساعدنا على أدراك أهمية وجود تلك الأحضان الدافئة عند الحاجة إليها، عندما نكون تعسا أو مرضى، وعندما يحيطنا الفشل والخيبة وندما تحاصرنا الأحزان، عندها فقط نحتاج لكل يد حنونة ولكل ذراع دافئ يحتوينا ويرجع الأمان إلى نفوسنا والراحة إلى قلوبنا. وقد يكون هذا الحضن لصديق أو والدين أو شخصاً قريباً عنا أو منا، ولكنه شخص قرر احتواءنا ومساعدتنا في أحلك الظروف.
لمزيد من المعلومات النفسية تابعونا على الانستقرام Instagram: @drayshashaikh