كان صديقي الدكتور عمر مكاوي، وهو طبيب ومناضل ومترجم، أول من تنبأ قبل أربعين سنة بأن التقدم المذهل في العلوم والتكنولوجيا، سيقضي على أسطورة الرجال الأقوياء والموهوبين، بنهاية القرن العشرين، وأن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الرجل العادي والمرأة العادية، وحذرني من مواصلة الاهتمام بقراءة سير العباقرة والأبطال من الرجال والنساء، أو الكتابة عنهم، حتى لا تبور بضاعتي.
ومع أنني تشككت فينبوءته، فإنني على سبيل الاحتياط، قررت أن أحافظ على مجموعة من الكتب تروي مذكرات عادية لرجال عاديين كانت تزحم مكتبتي، وأن أطرد الشيطان الذي كان يوسوس لي بين الحين والآخر، بأن أتخلص منها لتفسح مكانا لغيرها من مذكرات وسير الأبطال التي شغفت بقراءتها واقتنائها لعلها تفيدني بشيء حين يأتي الزمان الذي تنبأ به عمر مكاوي.
ولا أتذكر على وجه الدقة الظروف التي انتقلت فيها هذه الكتب إلى مكتبتي، والغالب أنني عثرت على بعضها وأنا أقلب بين رفوف الكتب في بيوت أصدقائي، وعلى غير العادة أعاروني إياها ولم يهتموا بالإلحاح في استردادها، وانني اشتريت الباقي من أسواق الكتب القديمة، وأن أصحابها في الحالتين لم يسمعوا نبوءة عمر مكاوي، أو سمعوا بها ولم يصدقوها وإلا ما تخلصوا من كتب تروي سير رجال ونساء سيصنع أمثالا لهم تاريخ القرن الحادي والعشرين.
أما المؤكد فهو أنني شغفت باقتناء هذه الكتب واستمتعت بقراءتها على الرغم من أن معظمها نشره أصحابه على نفقتهم الخاصة، مما يدل على أنهم لم يجدوا ناشرا يغامر بأمواله في نشر ما كتبوه، ومن أن معظمهم لم يكن كاتبا له اسم في سوق الكتابة والتأليف، وربما لم يؤلف غير هذا الكتاب الوحيد الذي يروي فيه سيرة حياته، التي تقرؤها فلا تجد فيها شيئا غير عادي، مما يدفعك للتساؤل عن الدافع الذي دفع صاحبها لكتابتها، مع أنه لم يقم بأي عمل فذ وأن سيرة حياتهم لا تختلف عن سيرة حياتك أنت نفسك.
من بين هذا النوع من التأليف مذكرات كانت تنشر على صفحات المجلات الأسبوعية الشعبية، والتي نشطت في العقود المتوسطة من القرن الماضي لحفز أصحابها على روايتها لأحد محرري المجلة، ليقوم بصياغتها ونشرها متسلسلة على صفحاتها، فلقيت إقبالا من القراء دفعت هذا النوع من المجلات للتنافس في البحث عن نماذج بشرية تنتمي إلى مهن وتشكيلات اجتماعية مختلفة لم تكن تعني عادة بنشر شيء عنها لكي تستنطقها وتشجعها على رواية سيرة حياتها، ثم تطرحها بعد ذلك في كتب شعبية بعناوين مثل مذكرات «عربجي» ومذكرات «نشال» ومذكرات سائق قطار ومذكرات «فتوة»، فضلا عن مذكرات كتبها عشرات من ضباط الشرطة و»مأموري» مراكزها في الريف، عن مغامراتهم مع اللصوص، ومذكرات لصوص الخزائن، والمغامرين الذين حاولوا سرقة البنوك.
ولعل هذا النوع من المذكرات، هو الذي أوحى للكاتب الكبير توفيق الحكيم، تأليف كتابه الشهير ذكريات نائب في الأرياف الذي روى فيه جانبا من ذكرياته حين كان يعمل في مقتبل حياته وكيلا للنائب العام في بعض قرى الريف، و لعل الاستقبال الحافل الذي لقيه هذا الكتاب عند نشره في ثلاثينيات القرن الماضي، كان وراء ازدهار هذا النوع من كتابة المذكرات أو الصور الاجتماعية مع الفارق طبعا بين كاتب محترف بقامة توفيق الحكيم وبين رواة أو صائغي هذا النوع من الكتابات من محرري الصحف الشعبية.
وبصرف النظر عن الطابع الشعبي لهذا النوع من المذكرات، ومن الأسلوب التلقائي وغير المنمق الذي كتبت به، فإن أهميتها البالغة تكمن في أنها احتفظت لنا بصور ونماذج وتقاليد وعادات ومهن وتشكيلات اجتماعية اختفت من حياتنا من دون أن يعنى أحد بتسجيلها، ولولا أن الرحالة الأجانب الذين زاروا مصر والبلاد العربية في العصور الوسطى وفي مطلع القرن التاسع عشر، حرصوا على أن يرصدوا ما كان سائدا فيها من عادات وتقاليد وخرافات وآداب شعبية وحرف وصناعات، كما فعل علماء الحملة الفرنسية في كتابهم (وصف مصر)، وكما فعل المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين في كتابه (المصريون المحدثون.. شماؤلهم وعاداتهم)، لما عرفنا الكثير عن المجتمع المصري في ذلك الزمان، ولما عرفنا أصول بعض ما لايزال يمارسه من عادات وتقاليد، وأحيانا ألفاظ ومصطلحات حتى الآن.
ولولا هذا النوع من الكتب، لافتقدنا مصادر بالغة الأهمية لتاريخ مصر الاجتماعي، فخلال النصف الثاني من القرن العشرين، ومع تسارع إيقاع التغير الاجتماعي، اختفت أو كادت مهن وعادات وتقاليد وتشكيلات اجتماعية كانت بقاياها لاتزال قائمة.
اختفى الطربوش الذي كان القانون يفرضه على كل طالب في المدارس أو موظف في الحكومة أن يضعه على رأسه باعتباره رمزا قوميا حتى إن مصر كلها شاركت في الثلاثينيات في مشروع قومي لجمع قرش من كل مواطن لبناء مصنع وطني لصناعة الطرابيش، انطلاقا من أنه لا يليق بها أن تستورد رمزها القومي من الخارج وأن يصنع لها الآخرون غطاء الرأس الذي كان بمثابة رمز للوطنية، واختفت باختفائه محلات غسل وكي الطرابيش التي لم يكن يخلو منها شارع في القاهرة والمدن الأخرى، واختفت معه الأغاني التي كانت تتغزل فيه، والبروتوكولات التي كانت تتعلق به، والعقوبات التي كانت توقع على الموظف الذي يدخل على رئيسه بدون طربوش، أو الطالب الذي يدخل مدرسته عاري الرأس.
واختفى «السقا» الذي كان يحمل المياه في قربة من جلد الماعز على ظهره ويطوف بالبيوت والمقاهي والورش، ليصبها في زير فخاري ويضع علامات بالطباشير على الحائط المجاور له بعدد القرب التي وردها لكي يحاسب المستهلك في نهاية الشهر على ثمنها بعد أن وصلت المياه النقية إلى البيوت، واختفت باختفائه الورش التي كانت تصنع القرب وتصلح عيوبها والحنفيات العمومية التي كان «السقا» يملأ منها القرب، ونسي الناس سبب تسمية إحدي «حارات» القاهرة باسم (حارة السقايين) أو أصل لقب أسرة الفنان اللامع أحمد السقا!
وتوقف منذ عام 1960 المحمل الشريف، الذي كان يحمل كسوة الكعبة المشرفة من مصر إلى الديار الحجازية، وكانت منذ العصور الوسطى تصنع في إدارة خاصة لهذا الغرض يعمل فيها مئات من النساجين والخياطين والمطرزين والخطاطين والصباغين لشهور متصلة حتى يقـوموا بـإعداد الكسـوة، وكـان يـوم سفـرـها إجـازة رسميـة واحتفالـية شعبية يشترك فيها جلالة الملك بذات نفسه ويتشرف بها كبار رجال الدولة.أهمية هذا النوع من الكتب هو أنه يحتفظ لنا بما لم نعن بتسجيله من التاريخ الاجتماعي لمصر، وأنه يحفزنا لكي نقوم بتسجيل هذا التاريخ، وجمعه وتحليله، والبحث في أسباب تطوره، وفي أي اتجاه يتطور.
أمـا وقـد أوشك العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من دون أن نفعل ذلك، فلا معنى لذلك، إلا أن نبوءة د. عمر مكاوي بأن هذا القرن سيكون قرن الرجل العادي والمرأة العادية لم تتحقق بعد.